قال: (الأمر الرابع: وأما ما يرجع إلى المخبَر) أي: المبلَّغ، فعندنا مخبر وهم الرواة، ومخبَر عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخبَر به وهو الدين، ومخبَر مبلغ وهو الأمة، فكل من أمره الله أن يستمع أو أن يبلغ. يقول: (فالمخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد الخلق عن الكذب، وعن الغلط، وعن الخطأ فيما نقلوه عن الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول، وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر -إذا كان هذا حاله- ويفيده خبر العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته) وهؤلاء والحمد لله هم
أهل السنة إلى قيام الساعة، إذ إن عندهم يقين بثقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعدالتهم وحفظهم وضبطهم وإتقانهم، فهؤلاء إذا بلغهم شيء عن طريقهم أفادهم ذلك العلم واليقين.والنوع الآخر: أهل البدع وأهل الأهواء المتكلمين المجادلين في هذا الزمان، العصرانيون أصحاب الفكر المستنير -كما يسمون أنفسهم- أو الواقعيون، إلى آخر هذه المذاهب التي انتشرت في هذه الأمة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردها إليه رداً حميداً، يقول: (هؤلاء لا علم لهم بذلك، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك) فهو يظن أن
أبا هريرة رضي الله عنه مثل أي راو، وأن حفظهم وأمانتهم وعدالتهم مثل أي واحد من الخلق، يقول: (فهؤلاء قد لا يفيد خبرهم اليقين فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر، وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه، أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة) أي: إذا ضممت أن هذا المخبر حق، وأن المخبر هم هؤلاء الثقات، وأن المخبر به هو الدين الذي تكفل الله بحفظه، وأنت المخبر في نفسك من قبول الحق ومعرفته ما يجعله يصل إلى قلبك، فإذا حصل لك ذلك أفادك العلم اليقيني بإذن الله، يقول: (وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود، أنه سأله رجل معدم فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير) مثل: الرجل المعروف بالكرم في بلدة ما، إذا أخبرك رجل ثقة صادق لا تشك في كلامه: أن رجلاً معدماً فقيراً ذهب إلى هذا الرجل الكريم المعطاء فأعطاه وأجزل له في العطاء، ثم رأيت شواهد ذلك، وهذا جارك المسكين الذين كنت تراه قبل الذهاب إلى هذا الرجل في حالة رثة، وبعد أيام طرأ عليه التغيير إلى الأحسن، من مسكن ومركب وملبس، فأنت انضمت إليك هذه القرائن وهو واحد، فإنك تجزم بأن هذا الرجل صادق، وأن الخبر حق؛ لأن المخبر صادق وثقة، عندك، والمخبر عنه موثوق والشواهد قامت لديك بالنسبة للمعطى، ثم أنت المخبر أو المتلقي للخبر تعرف حال هذا من الفقر، وتعرف حال هذا من العطاء، وتعرف حال المخبر من الصدق، وبالتالي تقول: هذا عندي يقين أنه فعلاً أعطاك، فيفيدك ذلك عملاً يقينياً، هذا وهو شخص واحد، فكيف إذا تعدد المخبرون وتعددت الشواهد والآثار، فإن ذلك يفيدك القطع بما لا يقبل الشك؟! يقول الشيخ رحمه الله: (فكيف إذا تعدد المخبرون عنه، وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة) فهذا مثل هذا الدين الذي بعث به الله عبده وصفيه وخيرته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين أخبروا عنه هم الثقات، وأخبروا عن أصدق الناس -الصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم، ثم ما أخبروا به ظهرت آثاره وعطاياه، فكيف كان حال الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه البغي والظلم والإفك والتشاحن والبغضاء والتدابر والتحاسد وقطيعة الرحم، بل كل رذيلة، فكيف أصبح حالهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كالملائكة مطمئنين في الأرض، ظهرت شواهد ذلك، آثار دينه صلى الله عليه وسلم التي إذا رآها العاقل يقول: والله إن هذا الدين حق، ولهذا لما أسلم أهل الكتاب وغيرهم في البلاد التي فتحها الصحابة رضي الله عنهم، كـ
بلاد الشام و
العراق و
مصر وشمال
أفريقيا وغيرها، أسلموا وبقيت بلاد الإسلام والحمد لله وإلى الآن أهلها مسلمون؛ لأنهم رأوا أخلاق النبوة، وليس لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جلسوا مع كل واحد منهم وناظروه وجادلوه حتى عرف الدين، وإلا لطالت الأعمار وانتهت ولم يسلم إلا عدد قليل، لكن لأن هؤلاء الناس بهرهم نور النبوة وأخلاقها في حياتهم، فكان كبار علماء دينهم يقولون: والله ما الذين صحبوا المسيح -الحواريين- بأصدق أو بأحسن خلقاً من هؤلاء. وذلك لما رأوا أخلاقهم وجدوا أن ما كانوا يقرءونه من أخلاق للحواريين الذين صحبوا المسيح عليه السلام، وجدوا أن هذه الأخلاق متمثلة في هؤلاء الرجال، في
معاذ و
سلمان في
بلاد الشام ، و
أبي الدرداء و
حذيفة و
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفي غيره ممن نزلوا
العراق وهكذا، فعلموا أن هؤلاء حواريون للنبي كالحواريين الذين كانوا مع المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن تكون أخلاقهم أخلاق كذابين، ولا أتباع كذاب، ولا أتباع طالب دنيا أو حاكم صاحب ملك، إذ إن المعروف أن القادة المستعمرون الفاتحون إذا دخلوا مدينة أو دمروا أمة أو احتلوا بلداً ما؛ فإن أخلاقهم هي الغطرسة والعجرفة والقوة والافتخار، والنهب والسفك للدماء، والتبجح والافتخار، لكن هؤلاء ليس فيهم من هذه الصفات، وإنما هؤلاء فتحوا القلوب بالإيمان، وبينوا للناس أن وراء هذه الدار داراً، وأن فوق هذا العالم رباً تبارك وتعالى يجازي ويحاسب، وأن لكل إنسان في هذه الدنيا ديناً وشريعة لا بد أن يتبعها وأن يسير عليها، وإلا كان من أهل النار، كما رأى الناس فيهم الإيثار، فكيف يكون حال أهل
دمشق عندما يكون أميرهم
سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وهو يحمل الحطب على ظهره، وقد رأوا أمراء الروم وقواد الروم وهم يستخدمون خلق الله، ويستعبدونهم عبيداً لهم في كل شيء؟! لا يمكن أن يصدق ذلك، فإذا رأوهم وسمعوا عن سيرتهم وأحوالهم أيقنوا أن هذا الدين حق، حتى الذي لم يجادل أو يجلس أو يتعلم اللغة العربية أو يقرأ أحوالهم قراءةً، فإن هذا أمر تشعر به القلوب أكثر من أن يترجم لها باللسان، أو أن تقرأه، أو أن تجادل أهله حتى تقتنع أنه حق، فهذا التأثير العظيم الذي أحدثه هذا الجيل، ويقينهم بأن هذا النبي حق، وأن هذا الدين حق، وأن هؤلاء أصحاب نبي هم أيضاً صحابة وحواريون بحق، وهذا جاءهم نتيجة هذه القرائن المجتمعة، وليست لمجرد إخبار أو مناظرة أو جلسة، فبهذا يتضح ويظهر أن ما قرره شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى من هذا الكلام النفيس، وأن علماء الحديث و
أهل السنة والجماعة يقررون صحة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد اجتمعت فيه هذه الأمور، ما يرجع منها إلى المخبر، وما يرجع منها إلى المخبر عنه، وما يرجع إلى المخبر به، وما يرجع إلى المخبر المبلغ وهو الأمة. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.